مساحة إعلانية

نون النسوة في الأدب العربي: هل أثرت عليها الصوابية السياسية دائمة التغيُّر؟

اليوم لن نتحدث عن قوائم كتب، ولم نتطرق إلى تحليلات روائية. اليوم
سنتحدث عن مفهوم الصوابية السياسية وتحوّره عبر التاريخ الأدبي، وهل ظلمت
الصوابية السياسية النساء؟هذا المقال لا ينتمي إلى القالب المعتاد
للقوائم المملة التي يمكن أن تراها في أي مكان. نحن لن نتطرق إلى أبرز
أعمال الكاتبة الفلانية، أو لماذا اخترنا الكتاب الفلاني ليكون في صدر
الحديث. اليوم سوف نرمي بشباكنا في بحر الصوابية السياسية يا رفاق،
ونُسلط الضوء على مراحل تطورها بالنسبة إلى مضمار الأدب العربي.

هل ظلمت الصوابية السياسية النساء؟ هل نصرتهنّ؟ أم بين بين؟ اربطوا أحزمة
الأمان جيدًا، خدوا وقتكم في تحضير كوب قهوة بدون حليب أو سكر، واستعدوا
لجلسة دردشة ربما لن تروق لأغلبكم.

ما هي الصوابية السياسية؟ وما علاقتها بالأدب العربي؟

الصوابية السياسية – Political Correctness، هي مصطلح تم صكّه في الكتب
والمراجع، وتم نشره على نطاق واسع بداية من عام 1980 حتى يومنا هذا.
ببساطة يتناول المصطلح مفهوم الاحترام المتبادل. أنت تحترم فلسفة وميول
الآخر، وهو بدوره يحترم فلسفتك وميولك. وبهذا يمكن اختصار الصوابية
السياسية في كلمة: «حيادية».

الشخص الحيادي هو الذي يتخيل معتقداته وأفكاره على أنها رداء يلبسه أينما
ذهب، لكن عندما يدخل في نقاش مع فرد آخر، يخلع عنه هذا الرداء تمامًا،
ويصير أمامه عاريًا، ومستعدًا لتلقي الأفكار الجديدة. إذا كانت منطقية،
سيخيطها في الرداء خاصته، وإذا لم تكن، سيشكر الطرف الآخر على مشاركته في
الحوار، ثم يلبس الرداء من جديد، ويهم بالرحيل.

هذا المفهوم البسيط، لكن ما هو المفهوم الأكاديمي يا ترى؟ هنا يمكن القول
أنها عبارة عن مجموعة من السلوكيات والأفعال التي لا تهدف إلى تحقير
الطرف الآخر، أو الإساءة إليه بشكلٍ أو بآخر. وبموجب كونها تعتمد على
المفهوم المتغير (للإساءة)؛ فبالتالي هي تتغير كذلك.

هل كانت الصوابية السياسية موجودة قبل صكّ المصطلح؟ هل كانت موجودة في
فجر اللغة العربية مثلًا؟ وإذا كانت موجودة، هل أثرت على الأدب الذي هو
الصورة اللغوية الأقرب للعقل البشري؟ وخصوصًا الأدب النسوي؟

للإجابة على تلك الأسئلة، يجب أن نتحدث أولًا عن القلم النسائي بالنسبة
لتطور الأدب العربي نفسه. ذلك سيمكننا من تكوين نظرة منطقية عن مفهوم
الصوابية السياسية في ذاك الوقت.

عصر الأدب الجاهلي

عصر الأدب الجاهلي يعتبره المؤرّخون حجر الزاوية في الأدب العربي
مُجملًا. هو العصر الذي عمل على صهر وتشكيل اللبنة الأولى في قلعة الأدب،
وقسّمه إلى شعرٍ ونثر. النثر وقتها لم يكن مؤثرًا بقدر الشعر الذي كان
وسيلة دعاية جبّارة للذات وللآخرين.

الشعر نفسه احتوى على مراحل تطور مختلفة على المستوى الداخلي، لكن إذا
نظرنا له من الخارج، سنجد أن أبرز فئة كُبرى فيه هي المديح. ووقتها كان
المديح يرتقي إلى مستوى الغزل إذا كان ذاهبًا إلى نون النسوة. عندما كان
الشاعر يتغزل بمحبوبته، لا يأتي على ذكر اسمها أو عنوانها بدقة، كان فقط
يتحدث بسطحية شديدة بالنسبة للمعلومات الأساسية، وبعمق مهول بالنسبة
للمفاتن الجسدية والروحية. وإذا ذكر اسمها، يكون معروفًا أن تلك السيدة
لهذا الشاعر، والقبائل تعلم ذلك بالفعل، وتُصدِّق عليه. وإذا لم تُصدِّق
عليه.. حسنًا، أنتم تعلمون المآسي التي عاناها (عنترة بن شداد) من أجل
(عبلة).

ربما هذا يجعلك تعتقد أن الصوابية السياسية كان مفهومها هو تهميش المرأة
على الصعيد العام، ومدحها على الصعيد الخاص. لكن لا، انتظر لترى الصورة
الكاملة.

كانت هناك شاعرة جاهلية تُدعى (عفيرة الجديسية)، واهتمت بتحريض قومها على
ملكٍ ظالم، عبر التقليل من ذكورة الرجل الذي لا يثور لحق المرأة، قائلة:

فَبُعدًا وسُخفًا للّذي ليس دافعًا

وَيَختال يَمشي بيننا مشية الفحلِ

بعد ما قيل، لا يجب القول أن العصر الجاهلي ظلم القلم النسائي، لكنه ظلم
المرأة ذاتها. أجل القلم كان موجودًا، لكن في الخفاء، ولا يظهر إلا وقت
وصول المرأة لنقطة الانكسار. في أسواق الشعر، للذكر السيادة. كما أن
ولادة الإناث كانت مكروهة جدًا. وفي أكثر من مرة، قامر الرجال على
زوجاتهنّ، وإذا خسروا، ذهبن إلى أحضان الرابحين على غير رضاهنّ. وعندما
يموت زوج أو أب إحداهنّ، تصير مستباحة من الآخرين؛ حيث قال (ابن عباس):

كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها، أو
يحبسها حتى تفتدي بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها.

فلذلك الصوابية السياسية في العصر الجاهلي كان مفهومها أن الصواب هو
تمكين الرجل على المرأة، وأنها هنا مجرد متاع من أمتعته، ويُمكن التصرف
فيها كما يتصرف المرء في العملة أو البهيمة.

عصر الأدب الإسلامي

أتى العصر الإسلامي وقام على تجديد وتطوير الأدب. وذلك خلال العصران
الأموي والعباسي سويًّا. وقتها انتشرت المؤلفات النثرية والشعرية على حدٍ
سواء، وفي عصر الدولة العباسية، تم حفظها في مكتبات كاملة بالعاصمة
بغداد. ذلك دون شك يفتح الباب لمزيد من الإبداع. لكن السؤال هنا، هل
تحررت المرأة من قيود الجاهلية، وشاركت في ذلك المحفل الإبداعي بقلم
نسائي كُتب في صفحات التاريخ؟

الإجابة أجل، ولا بنفس الوقت، لكن كيف؟

العصر العباسي كان وقت ازدهار القلم النسائي، وحظيت النساء بمكانة عالية
في المضمار الأدبي. على سبيل المثال اشتهرت الشاعرة (علية بنت المهدي)
بالغزل المستتر. كانت أخت الخليفة هارون الرشيد، وبالرغم من المكانة
العالية التي جعلتها واحدة من رؤوس الأقلام في بلاط الخليفة، إلا أن
مفهوم الصوابية السياسية وقتها بالنسبة للمرأة، لجم لسانها عن البوح
بمكنون فؤادها بالشكل الذي أرادته. وبناءً عليه ناجت المحبوب دون ذكر
اسمه في أكثر من مرة، حتى استبد بها الأمر وقالت:

أيا رب حتى متى أضرع * وحتّام أبكي وأسترجع

لقد قطع اليأس حبل الرجاء * فما في وصالك لي مطمع

هذا يدل على أنه بالرغم من مكانة بعض النساء العالية، إلا أن حريتهنّ لم
تكن مطلقة بداخل الأُطر الشرعية للدين الإسلامي حتى. فبغض النظر عن تمكين
الدين للمرأة في مواضع عديدة، ما زالت النظرة الجاهلية غالبة على مفهوم
حرية الأنثى وقتها. وهنا يمكن القول أن الاختلاف الجوهري بين العصر
الجاهلي والعصر الإسلامي بالنسبة لأدب المرأة، هو أنه تم الاعتراف بها
كشاعرة وناثرة بشكلٍ أكبر بمراحل من العصر الجاهلي. لكن أن تناطح الذكر
رأسًا برأس من حيث المكانة الأدبية؟ لا، هذا لم يكن مباحًا على الإطلاق.

عصر الأدب الحديث

هنا أخيرًا نصل إلى أشخاص سمعنا عنهم فعلًا، وترددت أسمائهم على مسامعنا
لسنين طويلة. الأدب العربي في العصر الحديث لم تتغير صوابيته السياسية
كثيرًا في الواقع. ربما تبدو التغيّرات جوهرية من الخارج، لكن من الباطن
الوضع ثابت تقريبًا.

عندما خرجت أسماء ذكورية للنور مثل (مصطفى صادق الرافعي) و (نجيب محفوظ)
و (إحسان عبد القدوس) و (عباس محمود العقاد)، بزغت أسماء نسائية أيضًا
مثل (لطيفة الزيات) و (رضوى عاشور) و (مي زيادة) و (نوال السعداوي).

نرشح لك قراءة: ليالي إيزيس كوبيا: رواية عن ميّ زيادة ومَأْساة أديبة
خذلها الحُبّ!

ربما تبدو الكفّة متعادلة، أليس كذلك؟ دعني أوضح لك شيئًا..

الصوابية السياسية في نهايات القرن العشرين أخذت شكل الرقابة التراثية
المُغذّاة بالرقابة الدينية. ربما تبدو الجملة معقدة بعض الشيء، لكن لا
تقلق، سنبسِّط الأمور سويًّا.

التراث العربي عبارة عن مزيج من العادات والتقاليد المتوارثة من جيل إلى
جيل، بداية من العصر الجاهلي، وحتى وقتنا هذا. وأي موروث، يُنقل مع
تعديلات تتلائم مع مقتضيات الجيل الجديد من سياسة وجغرافيا وما إلى ذلك.
لكن هذا بالنسبة للعالم كله، أما بالنسبة للعرب، الوضع مختلف بعض الشيء.

التعديلات الخاصة بالموروثات لا تتغير بالقدر الذي يضمن تطوير مفهوم
الصوابية السياسية، وذلك بسبب وجود رواسخ عقائدية (أو فهم خاطئ لتلك
الرواسخ) تحول دون كسر القيود، ومن ثم الارتقاء نحو الأفضل. لذلك بالرغم
من تمكين المرأة في العديد من المناصب الوظيفية والأدبية بالعصر الحديث،
إلا أن ذلك التمكين عبارة عن تمكين مُشوَّه، والسلطة الدينية هي التي
عملت على تشويهه. حيث أن السلطة الدينية جزء لا يتجزّأ من السلطة
السياسية؛ وهذا بدوره يتنافى مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي لا
يجب أن تحد فيها أي سلطة، حرية الرأي والإبداع.

وبذلك تصير الصوابية السياسية في العصر الحديث بالشرق، مجرد مسخ مُشوَّه
مقارنة بالتعريف المنطقي لها بالغرب. وبالرغم من وجود قناع المساواة على
وجه صوابية العرب، إلا أن وجهها الحقيقي يظهر مع أقل رأي منطقي يُطرح على
الساحة.

ما دليلي؟ هنا يا عزيزي يجب أن أحدثك عن الكاتبة (نوال السعداوي) قليلًا..

نوال السعداوي.. الصوابية السياسية العلمانية في أبهى صورها

لن أبالغ إذا قلت أن (نوال السعداوي) هي التي شكلت الإنسان الذي أنا عليه
الآن. وهنا لا أقصدها كشخص، بل كفلسفة. فلسفة تلك السيدة تعتمد على اتخاذ
العلمانية كمبدأ يجعل الحياة أفضل (هذا ما استنبطه من خلال فهمي الشخصي
لتفكيرها). والعلمانية مبنية على الحيادية في الأساس، والحيادية ليست
بالضرورة أن تُقتبس من الأديان، بل تنبع من داخل الفرد، وبموجب إيمانه
بقيمته الإنسانية كفرد له حقوق وواجبات مدنية تفرضها عليه الحضارة
الإنسانية التي بدأت بكائن وحيد الخلية، حتى وصلت لكائن مُعقد يصنع
المعجزات.

تبنت المنطق في كتاباتها، وبالنسبة لي هي المثال الأفضل للأديب الحقّ.
الأديب ليس بالضرورة أن تقرأ كل كتبه لتعرف كيف يُفكر، يكفي أن تقرأ جملة
واحدة في فقرة واحدة في صفحة واحدة، وبها يمكن أن تُعيد التفكير في حياتك
كلها. جميع الموروثات التي ابتلعتها عن جهل، كل التنمر الذي قمت به تجاه
الآخرين، وكل التيه الذي كنت مغموسًا فيه من منبت الشعر وحتى إخمص القدم،
تبدأ في نزعه بالتدريج.

كافحت (نوال) كثيرًا من أجل طرح أفكارها على المجتمع. ذلك الكفاح تمثل في
دفع ثمن حرية التعبير، والثمن كان السجن والمنع من النشر والعيش في منفى.
سواء كان ذلك المنفى جغرافيّ المفهوم، أو نفسي المفهوم. وكتبت العديد من
المؤلفات الممتازة جدًا، والتي تُعبر عن روح الناشطة الحقوقية من أجل
نصرة المرأة، وأبرزها: (المرأة والجنس ) – (المرأة والصراع النفسي ) –
(امرأة عند نقطة الصفر ) – (الوجه العاري للمرأة العربية ). وإذا كنت
تريد أن تعرفها حقّ المعرفة، اقرأ أول كتاب أشرنا إليه.

ما لا تعرفه عن نوال السعداوي.. من هي؟ سيرتها الذاتية، إنجازاتها وأقوالها

ذلك بدوره يجعلنا نُدرك مفهوم الصوابية السياسية بالعصر الحديث في
الأقطار العربية. أجل، إنه مفهوم مُشوَّه يفتقر للمنطق في العديد من
الأوجه. وإذا تحدثنا عن (نوال) تحديدًا كشخص مرّ بأكثر من فترة حكم بمصر،
سنجد أن حرية القلم النسائي سابقًا كانت مقموعة بشدة إذا لم تكن متصلة
بالحديث السطحي، ثم سنجدها هذه الأيام مكفولة بحدود للأسماء البارزة فقط.

فإذا ظهرت كاتبة جديدة ولم يكن لها رفيق مُعين من الكاتبات الكبيرات في
مجال معارضة نواميس المجتمع، سيكون مصيرها نفس مصير (نوال) في صِباها
الفكري.

وفي الختام.. لم نتحدث اليوم عن قوائم كتب، ولم نتطرق إلى تحليلات
روائية. اليوم تحدثنا عن مفهوم الصوابية السياسية وتحوّره عبر محطات
تاريخ الأدب العربي مُجملًا. كل شيء يتغير، ومهما كان مفهوم الصوابية
الآن مُشوّهًا، سيأتي يوم تُهدم فيه الرواسخ، تُمحى فيه خطابات الكراهية،
وتُكفل فيه حرية الرأي بالقدر الذي يدفع الوطن العربي نحو الأمام.

أبرز المصادر:

أدب المرأة في العصر العباسي وملامحه الفنية (خالد الحلبوني)

دراسات لغوية – مكانة المرأة وإسهاماتها في الأدب العربي القديم
(نصرالدين إبراهيم أحمد حسين)

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا:

الاكتر شيوعا

المشاركات الشائعة

المشاركات الشائعة

المشاركات الشائعة