لا علاقة أضحكني وأحببته وأعجبني. استغرب أحياناً عندما يقول لك أحدهم لم
أحب ما كتبته! يا صديقي العزيز من قال أساساً أننا نكتب لكي تحب! أحياناً
كثيرة نحن أنفسنا لا نحب ما نكتب!على العكس مِن فصل الصيف بحرارته
المرتفعة ويومه المُمل طويل المدة ثقيل الظل، وبقُبلهِ اللزجة التي لا
ترغب بأدائها لكن الواجب في كثير من الأحيان يفرض ذلك. يأتي الشتاء
ليخالف كل ذلك تماماً. فصل الشتاء فصل الانطواء. فصل أكثر دفئاً رغم
برودة طقسه في حالة غريبة من التناقض! فصل أكثر سكوناً أكثر هدوءًا. فصل
لا يجعلك ترغب بالخروج، ولا يمنحك الرغبة في الجموح واقتحام الحياة.
يقول الشتاء لك اجلس في المنزل، حضّر شراباً ساخناً، استمتع برؤية المطر
مِن نافذة على ضوء يتوهج بصعوبة وأنت تتذكّر مجريات أحداث أصبحت في طي
الماضي، وسحبت عليها الذكرى ذيول النسيان.
وأهم مِن هذا كله، بأنه فصل يدفعك للكتابة، خصوصاً فترة نهاية السنة!
لأكون صريحاً معكم، فشلت في كتابة مقدمة لهذا المقال. حاولت فوجدتها
جميعها رديئة. أول مقدمة طويلة جداً، الأخرى قصيرة مبتذلة، وتلك سخيفة،
وغير مناسبة لصلب الموضوع قليلاً، وهكذا مع الكل. عدة محاولات جميعها
باءت بالفشل، فارتأيت أن أكون صادقاً وآتي متحدثاً بالذي حصل بدون لف أو
دوران.
قبل أن أبدأ، هناك ملاحظات مهمة يجب أن أقولها. العنوان الثاني للمقال
«للجميع ولغير أحد» هو العنوان الثانوي أو الفرعي لكتاب نيتشه الشهير
«هكذا تكلم زرادشت» وعن قصد فعلت ذلك لأن في المقال ريحاً نيتشوية ستكون
حاضرة فيه أو في أحد عناوينه على الأقل.
الملاحظة الأخرى أن كلمة الأخير في العنوان أيضاً لها دلالة. فالمقال منذ
الجزء الأول عبارة عن عشرين بند، فلماذا سأكتب هنا كلمة الأخير؟ أي أنه
من الواضح أن هذا الجزء سيكون الأخير كونه المكمل للأول، إلا أن لكتابتها
دلالة أخرى ستعرفونها فيما سيأتي.
أخيراً وليس آخراً، الملاحظة النهائية أني آسف على تأخير هذا المقال
كثيراً وأعتذر لكل الرسائل التي وصلت تسأل وتتساءل. لكن هناك أمور تخرج
أحياناً عن الإرادة، وليس أحبُ على قلب أحدهم إلا أن يكتب شيئاً يُقرأ،
فتأكدوا لا يوجد كاتب يحب أن يحتفظ بما يكتب لنفسه. فالأمر كان إجبارياً.
كعادتنا، لنوقف الآن هذه المقدمة والملاحظات ولنبدأ مع استكمال قواعد
حياتنا. حياة الإنسان مفهومة وبسيطة، كانت ولا تزال حتى رغم تراكم
الأتربة الحداثية عليها، وإن أردنا أن نفهم الحاضر المعاصر، لا بد من أن
نسلّط العدسة قليلاً لنكبّر الماضي. فالإنسان الحديث يُولي للمظهر أهمية
كبرى، ولا يمكنك فهم ذلك سوى إن كررت شريط الزمن إلى الوراء. أو أن تقرأ
ما سيكتب تالياً!
1- الخلل في أشكالنا
لن تحتاج للكثير من التمعّن حتى تدرك مدى أهمية الشكل في تقييم الناس لنا
أو حتى تقييمنا الشخصي غير الواعي لمن حولنا. كل ما عليك فعله للتأكد من
ذلك أن تذهب لإحدى اللقاءات ذات اليوم الواحد (الاجتماعات، المؤتمرات،
الحفلات.. الخ) والتي يكون فيها الكثير من الغرباء الذين لا تعرفهم.
لنطرح حينها السؤال التالي: ما هو أكثر أو أوّل شيء يلفت نظرك فيهم؟
من الأمور المثيرة للسخرية، أنه حتى اللغة متواطئة وتعبّر عن مدى ضحالة
الإنسان في هذا الجانب، إذ دائماً ما يستخدم مصطلح ملفت للنظر بينما لم
نرَ استخدام ملفت للسمع او ملفت للتذوق أو ملفت للشم. واللغة كما هو
معروف تصرح بالطريقة غير الواعية للتفكير.
منذ مدة ثلاث سنوات تقريباً، كنت أحضر كورساً في اللغة الألمانية،
وللمصادفة البحتة، فإن الكورس كان مكوّناً من حوالي 9 بنات وأنا الذكر
الوحيد قليل الذوق الذي يجلس معهم. لا أعرف كيف فتحت المدرّسة الموضوع
ومتى، لكن فجأة وبدون سابق إنذار تحولنا من الحديث في «آخت وماخت
وشبغشست» إلى حديث وحوار يناقش أهمية الشكل والمظهر وتأثيره على الناس
وتعاملاتهم.
اتخذت وضعية زهرة الحائط سريعاً، أو وضعية نصف الليمونة الموجودة في
البراد منذ قرن ولم أدخل في الصراع الدائر بسبب احتداد النقاش وشدة تطاير
اللعاب، فارتأيت أن أشاهد بصمت من بعيد. وما هي إلا لحظات حتى قفزت إحدى
الطالبات بغضب وقالت أنّ الأمر مزعج جداً خصوصاً أن المجتمع يرى أنه من
حق الذكر أن يطلب فيمن يريد من طرف آخر صفات شكلية واضحة مُسبقاً بينما
الأنثى لا يحق لها لذلك، وتكتفي دائماً بأن مفهوم الأخلاق والشخصية هو
الأهم، وفي بعض الأحيان قد يزيد الأمر ليصل لمرتبة «الرجال رحمة ولو كان
فحمة!».
هذا التساؤل الذي طرحته الطالبة الغاضبة والذي جعل من المدرّسة تندهش
نوعاً ما هو مشروع فعلاً، فلماذا الإنسان ذكراً أو أنثى هو كائن بصري إلى
هذا الحد؟ ولماذا الذكور تحديداً يسلكون منحى أكبر في هذا السياق؟
الجواب أسهل مما يعتقد الجميع.
نكر شريط زمن التاريخ التطوري للإنسان إلى قبل حوالي 200 ألف سنة لنصطدم
بجواب كل هذه التساؤلات مكتوباً على لافتة ضخمة جداً تُسمى «العمر»!
نعم نعم. عندما نعود بالزمن للوراء ونرى أسلافنا القدماء، لا بد من تساؤل
مهم وهو كيف كانوا يستدلون على الأعمار؟ بالتحديد أكثر، عندما يريدون
التزاوج والاستنسال – وهي الوظيفة الوحيدة للأسلاف القدماء لذلك لا تشعر
بالحرج عزيزي القارئ، فحياتهم باختصار كانت ابقَ حيًا كي تتكاثر. منتهى
البساطة والملل واللا إنجاز كما ترون – كيف كان الرجل يعرف أن المرأة
التي أمامه يافعة ذات خصوبة عالية تعطي نسلاً جيداً؟ وكيف كانت المرأة
بدورها تفعل ذلك للرجل؟
لم يكن هناك سنين لم يكن هناك أعمار لم يكن هناك تقويم تقطف منه ورقة كل
يوم. حتى لم يكن هناك لغات وكلمات بل مجرد همهمات بدائية ليس إلا. فكيف
يستدلون على ذلك؟ الجواب باختصار شديد هو الشكل والمظهر الخارجي.
سيقول لك الجميع الآن بوصفهم بشراً مدنيين متحضرين أن الشكل غير مهم، هذا
صحيح كوهلة أولى، لكن الإنسان القديم والسلف السابق الرابض في داخلنا
يرفض ذلك ليقول أنّ الشكل لا زال يلعب دوراً ولا زال يُذكّر بتلك السنون
الماضية. وغالباً أنت شخصياً ستتعرض لمواقف معينة ستجد فيها أهمية الشكل
وكيف يؤثر، وفي بعض الحالات الحرجة قد تشهد ربما تنمراً في هذا الموضوع
حتى.
على سبيل المثال، أحد أهم الإشارات الشكلية في هذا السياق هو العين
البشرية التي لطالما تغزل بها الجميع. في الحقيقة العيون هي أهم عامل
قديم في تحديد مدى خصوبة ويفاعة الطرف المقابل. إذ أن حجم العين ثابت منذ
الولادة تقريباً وأحياناً من فترة المراهقة. بينما بقية أعضاء الوجه
كالأنف والأذنين تستمر بالنمو. فيكون حجم العين بالنسبة للوجه دليل على
العمر. فكلما صغرت كلما دلَ على ازدياد نمو الوجه، أي أصبح عمره أكبر.
فلو أردنا تقويض النظرية الرومانسية في التغزل بالعيون. يمكن أن نقول ألا
أحد يحب عيون أحدهم ولا حتى لونهم، الأمر برمته أنهم ينظرون إلى نسبة
ذهبية من حجمها بالنسبة للوجه حتى يستدلون بها بشكل غير مباشر وغير واعي
على العمر ومدى خصوبة الطرف المقابل.
نجد نفس هذا التوجه في السينما أيضاً، فدائماً البطل الأخلاقي المضحي
بحياته والذي يبحث عن المشاكل بالمجهر الإلكتروني سيكون وسيماً أشقراً
أزرقاً طويلاً. حتماً لن تجد بطلاً قصيراً ولا بطلاً أسمراً، ولا بطلاً
يملك خدوش ولاسيمترية في وجهه، على العكس هذه الصفات غالباً تُعطى للشرير
المنحط وليس للبطل!
فهذا الأمر يا عزيزي مستقر في لاوعي الجميع سواءً صرّحوا أم لم يصرحوا.
نكرر مرةً أخرى اقتباس عالم النفس التطوري ديفيد باس في كتابه المشهور
عندما قال، أنّ الإنسان الحالي لا يزال عقله هو عقل الإنسان القديم الذي
عاش قبل حوالي 200 ألف سنة من الآن. فأمور من نمط الخوف غير المبرر من
العناكب والأفاعي والعقارب لا تزال موجودة لدى الإنسان الحديث على الرغم
من أن فرصة موته بسيارة أكبر منها، فلماذا لا يزال يملك نفس تلك المخاوف
إلى الآن؟ لماذا ما زال يحمل مخاوف إنسان الغابة إلى عصر المدنية؟
لأن عقل الغابة لا زال هو الموجود في رأس إنسان المدنية يا عزيزي! الأمر
بيولوجي بحت. عقل الزاحف ما زال يلعب على الساحة!
عقولنا ما تزال قديمة. إنساننا الحديث إلى الآن لم يصبح حديثاً بعد!
فعقله ما يزال عقل الإنسان في الغابة الذي يؤمن أن هناك ثعبانًا سيلدغه،
وأن ذلك الظلام يحوي وراءه حيواناً مفترساً سيأكله، وأن الشكل الخارجي لا
يزال هو العلامة الأولى على خصوبة الآخرين ومدى صلاحيتهم للتزاوج.
وأهم من هذا كله حتى نتأكد من مصداقية هذا الكلام هناك موضوع الاكتئاب
والعامل النفسي. الإنسان المعاصر كئيب – الاكتئاب أيضاً يسمى مرض الحداثة
– لأن عقله أيضاً لا يزال يعتقد أنه يعيش في الطبيعة بين الجداول
والأنهار، أي أن نظامه وجهازه النفسي مُجهز لذلك فقط. ولهذا نرى أكثر
المناطق هدوءًا للنفس وترويحاً لها هي المناطق الطبيعية. دون أن يدري
جهازنا النفسي القديم أننا الآن أصبحنا نعيش في كتل إسمنتية وبين
الخرسانات المسلحة، فالتحديث للنظام النفسي لم يأتِ إلينا بعد، عقولنا لا
تزال قديمة تعتقد أننا نعيش في الطبيعة. لذلك طبيعي أن تكون تعيساً
بائساً الآن، الاكتئاب هو مرض الإنسان الحديث الذي لا يعيش بين الأشجار.
الاكتئاب مرض ناتج من التناقض الذي يعيشه العقل بين ما هو مهيأ له أساساً
وهي الطبيعة، وبين ما يراه في الواقع وهو الأسمنت.
ربما مثلاً تطرأ التحديثات الجديدة للإنسان بعد حوالي 50 ألف سنة من الآن
عندما يكون أصبح يعيش بين المذنبات ولم تعد تنفعه أنظمة نفسية تتماشى مع
الإسمنت، بل يحتاج لأنظمة نفسية تتماشى مع الحياة بدون جاذبية!
لكن إلى أن تحدث تلك الأيام أو لا تحدث، يبقى الإنسان كائناً بصرياً بسبب
الإرث القديم الذي يحمله في عقله، ربما يدهشك الأمر للوهلة الأولى. لكن
عندما تسمع وتقرأ التأصيل الطبيعي له قد تقتنع وتسامح نفسك والناس من
حولك قليلاً.
لكن هذا قطعاً لا يعطي مبرراً للسلوك البصري الأرعن! بمعنى نعم الإنسان
في صلبه ظاهري شكلاني، لكن هذا لا يعطيك الحق لأن تتصرف ببصرية وشكلية.
لأنه باختصار شديد لم نعد نعيش في الغابة، وأنت حالياً الإنسان العاقل!
2- أنا آسف يا صديقي
يُقال أنّ اللغة الإنكليزية هي لغة العلوم، واللغة الألمانية هي لغة
الفلسفة. خصوصاً أن كانط، فريدريك نيتشه، لايبنتز، شوبينهاور، فيخته،
فيتغنشتاين، ومعظم الفلاسفة هم إما ألمان أو يتكلمون اللغة الألمانية،
لذلك لقراءة الفلسفة من أصولها لا بد من إتقان اللغة الألمانية. خصوصاً
أنها تحوي مفردات لا يمكن لأي لغة ولا أي فلسفة أخرى أن تصيبها.
لنفترض أن صديقك المفصل أسمه كرم، أو عبد الهادي أو علي. في لحظة ما
وخلال جزء من جزء من الثانية، عندما يفشل أحد أصدقائك ويتحطمون أنت
ستفرح! نعم نعم، هذه النقطة حساسة جداً وحدثني بها صديقي منذ مدة وقال
كيف أنه يشعر بلا أخلاقية عندما تأتيه ولا يعرف سببها، لكنها موجودة،
ولدى الجميع. لكن سرعان ما تأفل وتضمحل.
فلماذا نفرح لحظياً عندما يتحطم أقرب الناس لنا؟ ولماذا هم يفعلون ذلك أيضاً.
يكمن الجواب في اللغة الألمانية، تحديداً كلمة «Schadenfreude» والتي
تعني السعادة بفشل الآخرين، والتي أطّرها دوستويفسكي في بعض كتاباته
عندما قال: أحياناً يسعد الناس لرؤيتهم الرجل الكريم يتسخ ويتذلل شرفه!
فالبديهي أن الإنسان يحزن عندما يعتقد إنساناً صالحاً ظهر وغداً وتبين
عكس ما كان، لكن لماذا يفرح الناس وكأنهم يقولون انظروا لقد كشفت
حقيقته؟!
سبب ذلك باختصار هو وحدة المعاناة. عملياً أنت وهم ونحن لا نفرح بفشل
أصدقائنا ومن حولنا، نحن نفرح لأننا شعرنا بوحدة المعاناة. شعرنا وأدركنا
أن الجميع يخطئ مثلنا والجميع يعاني. لذلك تكون هذه اللحظة آنية وسريعة
جداً. لأنها لحظة إدراكية فقط لنتذكر أننا لسنا وحدنا في هذه المسرحية
الهزلية، فالأمر إنساني وقد تتعاطف معه حتى، وليس ضرباً من الانحطاط
الأخلاقي أو الاضطراب النفسي.
هناك نوع آخر من الحقد والكراهية أريد الحديث عنه، أعرف شخصاً أسمه يامن.
استغربت منذ مدة مدى كراهية الناس له على الرغم من أنهم لا يعرفونه ولا
يتحدثون معه، هذه حالة ملفتة للنظر. هناك شبه إجماع على كراهية هذا الرجل
من بعيد، دون أن يحدثوه، دون أن يكلموه، فقط هكذا من بعيد. طرحت هذا
التساؤل ووجدت جوابا له في نفس سياق كلامنا السابق أيضاً.
وهو أن هذا الرجل لا يُبدي نقطة ضعف! الإنسان بطبعه يحب أن يرى فيمن حوله
أجزاء من نفسه. إنسان يخطئ، إنسان يرسب في دراسته، إنسان لا يهندم مظهره،
إنسان يتحدث أحياناً ببعض الكلمات النابية، وما إلى هنالك. هذه الأمور
تؤنس الإنسان بأنه ليس وحيدًا فيما يفعل، لذلك طبائعنا في غالبها تميل
لرفاق السوء أو لنقل الرفاق الجامحين وليس أولئك النماذج الكرتونية التي
تصلح للصمد في غرفة الضيوف. فهذا الرجل كان لا يُبدي نقطة ضعف أبداً!
دائماً مظهره ممتاز. دائماً عمله ممتاز. دائماً كلامه منمق ممتاز. وكل
شيء ممتاز لذلك تشعر الناس تجاهه بالريبة، هذا النموذج لا بد أنه يخفي
شيء أو أمر ما.
وتجنباً لمثل هكذا أمور، انظر ماذا فعلت أنا مثلاً في مقدمة هذا المقال!
قلت لكم إني فشلت. لكني صراحة لم أفشل، على العكس عدم كتابتي لمقدمة هو
بحد ذاته مقدمة بطريقة عكسية. لكن أردت أن أضع هذه الثغرة كي تفهموا هذه
الفقرة. لا بد للإنسان أن يبدي أحياناً نقاط ضعف ليس لأنه ضعيف بل نوعاً
ما لكيلا يوحش قلب الإنسان الذي أمامه الذي يملك الكثير منها. فليس من
أجلك بل من أجلهم.
فلمثل كل هذه الأمور وأشباهها يجب أن نقول: أنا آسف يا صديقي، آسف يا
صديقتي. لكن عندما نعرف تبريرات ودواعي هكذا أفكار سيئة، قد نبرر لأنفسنا
ما نفعل.
3- الخطيئة الأخيرة: الرغبة في الانتقام
كثرة المطالعة والقراءة تفرض حدوث هوّة بين الواقع الحقيقي الذي نعيشه
يومياً، وبين الواقع الفكري المثالي أو قريب المثالي الذي وجب تطبيقه.
فمثلاً عندما ترى فيلم براد بيت وفريمان الشهير «سبع خطايا Seven». تتأثر
من مونتاجه وإخراجه وقوّة تمثيل شخصياته، لكن بأي قدر نتأثر بالفكرة التي
يحملها؟ تلك الخطايا السبع المميتة التي اتفقت تقريباً كل الفلسفات
والأديان على نبذها؟
القليل جداً، قليل جداً مَن يفعل ذلك.
لسنا مُفكري أبراج عاجية، بل هم من يتمتعون بتفكير الحشرات، لدرجة أن أي
كلام يُقال فوقهم يعتقدونه عاجياً! -نيتشه
تدور قصة الفيلم عن القاتل الذي يسعى لتنفيذ الخطايا السبع المميتة. إذ
يقوم بإيجاد شخص يحمل خطيئة واحدة فيقتله، وتكون الخطايا كالتالي:
الشراهة بالأكل. الطمع. الكسل. الحسد. الغضب. الغرور. الشهوة. وإن أردنا
تلخيصًا لأفكار هذا المقال البسيط، وأفكار المقالات الأخرى، وأفكار
الحياة بأكملها، لما خرجت الرذائل عن حدود المفردات المذنبة السابقة.
نبدأ بالخطيئة الأولى وهي شراهة الطعام . صديقي العزيز، جسد الإنسان
أمانة في عنقه، هو مجرّد مركبة مسؤولة أن تحملك مدة معينة من الزمن قبل
أن تتلاشى وتضمحل، لذلك حافظ عليها واتبع أنظمة صحية جيدة بدلاً من أنظمة
الصرف الصحي المُداوم عليها.
منذ مدة كنت في تعزية أحد الأشخاص وقد أصيب باكرًا بجلطة قلبية ومات،
وكان معظم الحاضرين يقولون يا للخسارة لقد قُطف في عز شبابه ورحل. صفنت
في هذه الجملة لأرى أنه لا مكان للصواب بها، فالسبب الأوّل للموت كما هو
معروف أمراض القلب والأوعية الدموية، لكن ما لا يقال لك أن السبب الرئيس
في تدمير القلب وأوعيته هو الجلوس الطويل وعدم ممارسة الرياضة والتدخين
واتباع نظام صحي سيء جداً.
معظم الدراسات التي ناقشت فائدة الرياضة على الجسم كانت تصرّح بنسبة
معيارية تتراوح من 1 سنة – 10 سنوات كتأخير لتداعي الجسم في حالة ممارسة
الرياضة وتمارين الهواء نصف ساعة يومياً! هل ترى الفائدة التي تتجاهلها
عامداً؟
يأكل يومياً طناً من الدسم والشحوم، وطناً من الحلويات وطناً من الدقيق.
ثم يموت باكراً فيقول من حوله لقد رحل المسكين في عز شبابه! لتنزل الرحمة
على روحه نعم، لكن هناك جزء من المسؤولية قد يكون كبيراً يتحمله هو في
ذلك! هو من خان أمانته ولم يدفع الفاتورة خاصته!
الرياضة عبارة عن فاتورة يجب أن تدفعها بشكل شهري على الأقل أو أسبوعي.
إن تركتها دون دفع تتراكم عليك أكثر، ثم أكثر، ثم أكثر، ثم لا ترى نفسك
سوى ممسكاً صدرك من ألم الاحتشاء القلبي الذي أتاك. وتقطع بذلك عمرك
بيدك، مَن يعلم ربما كنت ستعيش أكثر وتنتج أكثر، ولا تقل أنّه نصيب
ومقدّر ومكتوب، لأن هذا يأتي بعد أخذك بالأسباب وليس قبلها.
أنت هنا نفذت نوعاً من الانتحار البطيء غير المباشر!
لو أردت أن انفلت وانساق وراء شراهة الطعام لاستيقظت كل يوم وأكلت طناً
من الحلويات والمُربى وطناً من المعكرونة وطناً من الأطعمة عالية
الكوليسترول ولم أذهب للنادي يوماً، بل اكتفي بالتمدد والنوم كفرس النهر
بعد غداء فاخر كنت قد دمرت فيه شرياني الأبهر والتاجي. هذا ما نفعله لو
أردنا السعي وراء لذاتنا اللحظية، لكن يجب أن تفكر أبعد من ذلك، يجب أن
تكون إنساناً يخطط للأمام قبل كل شيء.
الخطيئة الثانية المنفّرة جداً هي الطمع . الإنسان الطمّاع لا يمكنك أن
تحتمله. طماع مادياً يده مغلولةٌ إلى عنقه، طماع اجتماعياً يغار على
محيطه الاجتماعي وأصدقائه بطريقة لئيمة وكأنه يمتلك سند عقاري بهم، طماع
فكرياً لا يشارك ما برأسه مع أحد. لدرجة أن الطمع وصل لبعض المراتب
المضحكة المثيرة للألم في أن البعض لا يحب أن يُسمِع أو يعرّف أصدقائه
على الأغاني الجميلة التي يسمعها! يطمع بهذا! يريد أن يستأثر بهكذا أمور
بسيطة أيضاً! يغار على أغانيه!
تلحق الطمع خطيئة الكسل الواجب وأدها أيضاً. الإنسان الكسول هو إنسان
غابة غير عاقل، بمعنى أنه وفقاً للدراسات الحديثة فإن سلوك الكسل وعدم
حرق طاقة هو سلوك تكيفي يجعلك تعيش أطول. مثل السلحفاة البطيئة التي تكسب
لقاء بطئها طول عمرها إذ تعيش لحوالي أكثر من 100 سنة. فالكسل هو سلوك
غريزي لا إنساني.
أنت الآن إنسان عاقل مدني، لا تتكاسل كفرس النهر. الكسل خطيئة. خطيئة لا
بد من إنهائها!
لكي نفهم خطيئة الغرور الرابعة يجب أن نفهم النجاح والسعادة أولاً. على
لسان «بابا رودي» في فيلم «The Walk» يقول بابا رودي لـ «فيليب بيتيت»
عدّاء الحبال عندما يريد نصحه بكيفية تجاوز الحبل المربوط بين ناطحتي
السحاب بالكلام التالي: ليس المهم الخطوة الأولى ولا الثانية ولا حتى
الأخيرة. المهم عندما تمشي على الحبل كي تجتازه الخطوة قبل الأخيرة!
الخطوة التي تعتقد بها أنك وصلت لكنك عمليًا لا تزال تقف على الحبل!
فيتملكك شعور السعادة بالنجاح وعبور الحبل، فيختل توازنك بالفرح، فتسقط!
يمكن أن نشاهد هذا المثال أيضاً بوضوح في الجامعات والمدارس، ما هي أكثر
مادة عرضة لأن يفشل بها الطالب ويرسب؟ الجواب المادة الأخيرة. لأنك تعتقد
أنك أنهيت الفحص لكنك عملياً لم تنهه أي لا تزال على الحبل ولا تزال هناك
مادة، فتتراخى في الدراسة وتكون النتيجة اختلال التوازن بالمشاعر الغامرة
والسقوط الحتمي.
أفعل هذا أيضاً عندما أكتب مقالاً مهماً أو شيئًا مشابهًا، إذ لا أقوم
بالاحتفال والاطراء الذاتي المطوّل بمدى أهمية ما كتبت بل اتجه مباشرة
إلى القيام بفعل جديد، كتابة مقال جديد، قراءة كتاب جديد، تبديل حفاضة
ابن اخي الصغير الرضيع.. الخ. المهم أن أقوم بنشاط سريع مُلهي ولا أمارس
فعل الاحتفال وعيش مشاعر البهجة والنجاح لأنها فعل مُخل بالتوازن!
لا تحتفل، اعبر مباشرةً للخطوة التالية!
لكن ما علاقة هذا بالغرور؟ إليك العلاقة يا عزيزي. الغرور ناتج بشكل
رئيسي من النجاح. من الناجح الذي يسعى لإحباط من حوله وليس فقط إبراز
نفسه!
لا يكفِ أن أنجح أنا، بل يجب أن يفشل الآخرون! – مانيفيستو الغرور
تنبع مشكلة الغرور أيضاً من الظلم في أن هناك الكثير من الأبطال يقفون
خلف الشاشات ووراء المسارح ولا يراهم أحد. فعندما أكتب مقالاً أنا هنا،
لا يقتصر الجهد علي أنا. هناك أبطال لطيفين يعملون ما وراء الظلال. هناك
ملاذ وعبدالله وعماد ومحمد فضل ونجوى. وأسماء قد لا يتسنَ الوقت لذكرها،
لكنهم دائماً حاضرين ودائماً موجودين.
المخرج أهم من الممثل، الكاتب أهم من الرواية، الأب والأم الذين درّسوا
أبنائهم أهم من أبنائهم. باختصار شديد، الأبطال الحقيقين. الأبطال الذين
يقفون في الظلال.
الشهوة أيضاً تملك نفس المقومات، لكنها تختلف في النتائج. فتكون إما شهوة
غريزية أو شهوة عصرية عاقلة لكنها سامة، كالحسد والغرور والطمع. يمكن أن
نقول أنّ الشهوة أكبر من مفهوم خطيئة، الشهوة هي إطار عام يعرّف الخطايا
نفسها!
خطيئتنا ما قبل الأخيرة هي الحسد . والذي هو باختصار شديد حالة تمني زوال
النعمة أو الفضل عمن بإمكاننا أن نكون مكانهم! مثلاً لا يمكن أنت كطالب
أن تحسد رئيس جمهورية! لأنه باختصار لا يمكنك أن تكون بمكانه وتطبق معيار
«ليه مو أنا؟» بينما يمكن أن تمارس الحسد مع طالب مثلك. وبروفيسور جامعي
مع بروفيسور جامعي. وكاتب مع كاتب آخر، وهلم جراً.
هناك مفهوم إيجابي عن الحسد وهو أنه تنافسي، إذ أنه يدفعك لتطوير نفسك
لتكون نسخة معدلة للأفضل إن سلكت منحى أخلاقي، أما لو مارست الحسد السام
الحاقد، الذي تسمم فيه نفسك ومن حولك فلن تخسر إلا أنت صدقني. الحسد أشبه
بنواة نووية موجودة ضمن جسم كل إنسان بمجرد أن تغتاظ وتحسد كثيراً تكون
قد سخنتها وغليتها حتى تعطيك شحنات حارقة تدريجياً إلى أن ينفجر المفاعل
ويدمرك بما فيه!
أخيراً. الخطيئة التي تمثلت بالمشهد الذي لن يتكرر ربما في تاريخ السينما
بأكملها، من قوة الإخراج والفكرة والتمثيل والموسيقا، مشهد براد بيت
ممسكاً المسدس ليطلق على القاتل محققا بذلك الخطيئة السابعة والنهائية،
خطيئة الغضب وما يعقبه من انتقام. والتي ترى مستوى دقة إحكامها من خلال
نظرات براد خلال ذلك المشهد.
يمكنك مشاهدة المقطع من هنا:
تكمن آفة الغضب في أنها خطيئة انفعالية بتأثير كارثي. بمعنى أنك تعرف
صديقك بشخصية معينة، لكن ما إن يغضب حتى يُقلب بشكل كامل وكأن إنساناً
آخر قد خرج منه! أي باختصار، الغضب غريزة حيوانية أكثر من كونها مشاعر
عابرة حتى.
يغضب الرجل فيعنّف زوجته، يغضب الصديق فيخاصم صديقه، يغضب العامل فيبصق
بوجه مدير عمله، تغضب الأم فتضرب أبناءها، وهلم جراً. الغضب فعل غير حميد
لأنه يغيرك، لأنه يجعلك تتخذ أفعالًا بناءً على انفعالات وهذا هو عين
الخطأ، تفحّص كل قراراتك الكارثية في حياتك ستجدها نابعة من انفعالات إما
بسعادة فتتكلم ببلاهة كالببغاء ثم تندم، أو انفعالات سلبية فتهين فلان،
وتقدح وتضرب علان.
في فيلم الخطايا السبعة يقع المحقق براد بيت في اختيار قاسي جداً، هدف
القاتل كان منذ البداية تنفيذ الخطايا السبعة وقتل أصحابها، وهدف المحقق
يكون القبض عليه. النقطة أن خطيئة الغضب والانتقام تكون الأخيرة. والمؤلم
أن الضحية التي قتلها السفاح كانت زوجة المحقق نفسه!
يقع المحقق في اختيار لا يحسد عليه أبداً. إما ألا يقتل القاتل وبذلك
يمنع تحقيقه للخطيئة السابعة الذي هو هدف القاتل منذ البداية لكنه لا
يظفر بثأر زوجته، أو أن يقتله انتقاماً وغضباً لزوجته، فيحقق بذلك مراد
القاتل. خصوصاً أن حياته لم يعد لها أهمية، إذ قتل 6 من قبلها، والإعدام
حتماً سيكون مصيره، فضحى بنفسه في سبيل تحقيق خطيئته الأخيرة.
يميل الكاتب للخيار الأكثر واقعية، وهو أن الإنسان محكوم بغرائز إن حاول
كبتها ستظهر حتماً في مواقف معينة، فكيف لو كانت تلك المواقف عظائم؟ يطلق
المحقق رصاصة من مسدسه على رأس السفاح منتقماً لزوجته، محققاً خطيئة
الإنسان الأخيرة. خطيئة الغضب.
ليس الشديد بالصرعة (القوة) إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.
الغضب صفة محورية في الإنسان لأنها تكشف الجانب السلبي منه، لذلك أعتقد
أن عدم حمل هذه الصفة في مقابلة حيازة الهدوء والرزانة وأحيانًا الانفعال
لكن ليس لدرجة الرعونة أمر كفيل بخلق مهابة على صاحبها.
ما أريد قوله في نهاية الفقرة أنه يلزمنا أن نقوم بتجسير الهوّة بين هذه
المفاهيم والخطايا كما قلت في بداية كلامي وبين الواقع المعاش اليومي في
أدق تفاصيله. هذه أمور ليست خيالية طوباوية بل من صلب ما نعيش، لذلك وجب
اغلاق الفجوة بين المثال والواقع.
4- التوقيت الخاطئ
هناك ميمز لطيف انتشر منذ مدة على الانترنت هو عن ماذا كان يفعل الناس
قبل اختراع شيء معين مهم. مثلاً اخترعت محارم الورق في العام كذا فالناس
قبلها بسنة كانوا يمسحون أنوفهم بأيديهم. اكتشف البنسلين في العام كذا،
قبله بعام كان الناس يشربون زيت الخروع مثلاً، وهلم جراً على نمط هذه
الأمثلة.
رغم الكوميديا والسخرية الواضحة في الميمز إلا أن هناك فكرة مهمة جداً
يعرضها وجب الالتفات إليها، وهي فكرة التوقيت الصحيح! التوقيت الذي يجب
أن تكون فيه حاضراً تماماً ليس قبله ولا بعده.
منذ مدة كتبت على تويتر التغريدة التالية:
مشكلة الحكمة أنها لا تأتي إلا في الوقت الضائع، حين لم تعد تنفع. كأن
تسجل هدفاً اسطورياً بعد نهاية المباراة، أن تقول أحبكِ بعدما رحلتْ، أن
تصبح مليونيراً في عمر الـ 90، أن تعتذر لوالديك تبكي وأنت تقف على
قبورهم. بمعنى آخر، أن تحصل على المفاتيح بعدما تقوم الحياة بنسف جميع
أبوابك.
مشكلة تويتر أيضاً أنه يحدد لك عدداً معيناً من الحروف، لذلك أعتقد أني
لم أعطِ الفكرة حقها هناك، فوجب أن أكتبها مطوّلاً هنا. مهارة التوقيت
المناسب شيء لا يستطيع الجميع فهمه. هناك أمور بمجرد أن تقادمت زمنياً لا
يعد لها معنى أبداً. المهم أن تستطيع تحقيقها في أوجها، في الوقت القاتل
الخاص بها وليس بعد فوات الأوان.
مثلاً أحدهم اكتشف الجاذبية بجهد فردي حقيقي منه بعد نيوتن بسنة واحدة!
ما أهمية ذلك؟ لا شيء. أحدهم كان قد فكّر بقانون الجاذبية قبل نيوتن
وغاليليو مثلاً، لكن في تلك الفترة لم تكن المفاهيم الرياضية /
الفيزيائية موجودة، لذلك اكتفى بالفكرة لديه فقط كحدس. هو شعرَ أن هناك
قوّة تحرك الأشياء إلى الأسفل لكنه الزمن الذي عاش به لم يكن يحتوي على
الأمور التي بنيت عليها براهين الجاذبية أساساً. فلا يكن منه إلا أن
يكتفي بفكرته كحدس يشعر به دون استطاعة برهانه.
هناك سوء فهم منتشر لموضوع الحدس. الحدس عملياً هو أشبه ما يكون بخبرة
المعالجة الطويلة لأمور متشابهة. مثلاً أنت حللت 1000 ورقة من الأسئلة
المؤتمتة «اختيار من متعدد» بعد مدة على مرور هذا يصبح لديك حدس بالإجابة
الصحيحة. أي أن معالجتك لمجموعة كبيرة من البيانات جعلت لديك أشبه
بالخبرة والاستشراف المستقبلي لتوقع النتائج.
فتكون مثلاً الإجابة الأطول هي الصحيحة أو الأقصر أو المكتوبة بطريقة مختلفة.. الخ.
فالحدس ليس فقط مجرد حاسة سادسة ومثل هكذا خوارق، الحدس أشبه ما يكون
بخبرة ذات أسس منطقية حقيقية.
ما نريد قوله أنّ للزمن عامل حاسم خارج عن إرادتنا في بعض الأحيان، فقد
تكون عبقرياً لا يشق لك غبار، وقد تكون عالماً لديه نظرية مكبوتة، وقد
تكون رائد اعمال سيحرق الدنيا بإنجازاته مستقبلاً، لكن الزمن أحيانا يلعب
بأوراقه فتفشل مشاريعنا.
تخيّل أن يقوم أحدهم الآن بصناعة آي باد بشعار تفاحة؟ ما قيمة ذلك؟ لا
شيء. لأن الزمن قد مضى حتى لو كان أصيلاً بفعلته، أو لم يسمع أبداً بما
فعله ستيف جوبز.
وعلى ذكر ستيف جوبز، دعنا نتحدث قليلاً عن مفهوم النجاح والقيمة.
5- القيمة أم النجاح؟ أم كليهما
في أحد اللقاءات يُسأل إيلون ماسك سؤالاً مهماً، ما رأيك بكل من نيكولا
تيسلا وتوماس أديسون؟ هل أنت تيسلوي أم أديسوني؟ يجاوب ماسك جواباً ذكياً
ليقول كلاهما مكملان لبعضهما وكلاهما احتاج الآخر، أديسون شخصية أعمال لا
يهمه سوى الترويج لمنتجاته وتحقيق الأرباح – مفهوم النجاح – أما تيسلا
فقد كان رجلاً حاذقاً لكنه منطوي على نفسه لدرجة شديدة، ويرى في بعض
الأمور الأديسونية عملاً لا أخلاقياً – مفهوم القيمة .
لكن في النهاية كلاهما احتاج بعضهما. أديسون مهم لتظهر عبقرية تسلا إلى
العلن، وتسلا مهم لكي تأخذ أعمال أديسون بعداً عملياً قيماً.
عودةً إلى جوبز، كنت قد قرأت منذ مدة مقالاً يقول فيه صاحبه أنه يعطي
جوبز درجة 0 في الناحية الاجتماعية والإنسانية، في حين أنه يعطيه درجة 10
بكونه رائد أعمال نادراً ما يتكرر. وفي كلتا الدرجتين نجد واضحاً
الاشتباك الحاصل بين مفهوم النجاح من جهة وبين مفهوم القيمة من جهة أخرى.
يُعطب الزمن ويعفّن كل شيء بطريقه بلا رحمة إلا القيم. القيم وحدها من
تنضج بمرور الزمن وتصبح أعظم!
هل أنت مستعد للتضحية؟ إجابة هذا التساؤل توضح لنا مفهوم القيمة والنجاح.
غالباً في طريق النجاح ستضطر للتضحية بالكثير من المبادئ المتعارف عليها
أو القيم إن صح التعبير. أول قيمة ساقطة يمكن أن نراها بوضوح عند غالبية
الناجحين هي العائلة، الأم، الأب، الزوجة، الأبناء…الخ رغم أن هناك حالات
تخالف ذلك، لكن بشكل ما يبدو أن النجاح المدوّي عالمياً هو مفهوم فردي
جداً لا يتسع إلا لشخص واحد.
فالأمر أولويات ليس أكثر. هل أنت مستعد لأن تعيش مع خزان من الأموال لكن
لا أحد من أهلك يتصل بك؟ أم هل أنت مستعد لأن تعيش كل يوم مُضحياً بحياتك
الشخصية في سبيل دفع ثمن قيم ومبادئ وواجبات للأهل والأقارب والأصدقاء
والخالات والعمات، لدرجة أنك تصل إلى مرحلة تجد نفسك تركض بحياة لم يعد
لديك وقت لكي تعيشها! فقط تركض وتركض وتركض!
كما قلنا الأمر أولويات، وتبقى النقطة المهمة أن تجعل من الأولوية غير
محكومة بالزمن. فطبيعي أن يكون الشاب أولويته التمرّد والمال، لكن في عمر
الـ 60 الأمر مختلف! أي يجب أن نضع بعين الاعتبار أهمية الرؤية بكاملها
وليس فقط حيز زمني ضيق جداً.
جوبز كان سيئاً مع عائلته وأب وزوج فاشل. لكنه رجل أعمال جبار. هل أنت
مستعد لو صحت لك الفرصة أن تصبح مثله؟ أن تكون رجلا عالمياً لكن لا أحد
يريد أن يقترب منك لأنهم يعرفون أنك وغد؟!
دائماً الشخصيات الخشنة الأقل عاطفيةً هي الأكثر نجاحاً. الإنسان الذي لا
يهتم بما يفكر الناس وبما يشعر الناس وبما يشعر هو نفسه حتى سيكون أكثر
نجاحاً. وعلى النقيض، نجد المائعين عاطفياً ممسحة بين الأقدام يدوسها
القاصي والداني. لذلك الأمر يعتمد على ما تريده من نتائج، وكما يقال، إن
أردت تحضير العجة عليك كسر البيض. فإن أردت النجاح عليك أن تكسر بعض مَن
حولك.
لكن هل أنت فعلاً مستعد للتضحية؟ أم من الممكن أن تجمع الاثنين؟ ربما…
الآن سنقوم بدمج الجزء الثاني من مقال خطة الخمس سنوات مع هذا المقال
نظراً لتشابه ما أردت أن أسوقه من أفكار في كليهما. وكما تحدّثنا فيه عن
القراءة، الكتابة، الرياضة. سنتحدث الآن بخطوات غريبة نوعاً ما عن هذه
الأمور وتجربتي بها. لننتقل إلى البند رقم 6 وإلى الجزء الثاني من خطة
الخمس سنوات.
6- في الحقيقة، القراءة ليست شيئاً مهماً
أصبح الحديث عن القراءة وظيفة كل مَن يريد أن يمارس سلطة معرفية على
الآخرين. فلا يفتأ يكرر ويعيد عن أهمية القراءة وأهمية أن تواظب على ذلك،
ويصدر دائماً القائمة الفلانية لأكثر وأفضل وأهم وأقيم الكتب، والقائمة
العلانية لكتب أخرى ما يجب أن تقرأها.
صراحةً القراءة شي جيد بالفعل، لكني سأخالف النمط السائد وربما أخالف ما
كنت أؤمن به سابقاً أنا بعد تجربة قد تكون طويلة لأقول أنّها جيدة في
مجالات معينة فقط. أي ليس بتلك الهالة الكبيرة التي تُعرض بها، لذلك
سأثير عدّة نقاط ولن أتكلم عن أفضل الكتب الواجب قراءتها ولا أفضل
الروايات. صدقني أيها القارئ أنا مللت أكثر منك هكذا عناوين، لذلك لن
أكتب لك شيئاً كهذا بل أمور أكثر أهمية.
السياق الأهم في القراءة هو الكتابة. بمعنى أنه متى يجب أن تقرأ؟ الجواب
عندما تُريد أن تكتب. نعم قراءة الأدب تحسّن من لغتك، نعم قراءة الروايات
تُعطيك بعداً إنسانياً عالمياً. نعم قراءة العلوم تجعلك إنساناً
معلوماتياً جامداً. لكن إن فكرنا غائياً تجد أن القراءة ليست ذات آفاق في
هذه المجالات. القراءة مهمة جداً عندما تُريد أن تكتب. فهي تعطيك كثيراً
من الأفكار، كثيراً من الأدوات، كثيراً من الأساليب وكثير من الشك والنقد
إن كان مَن تقرأ له حماراً.
فنعم القراءة مهمة، لكن أهميتها القصوى تكون لمن يريد أن يكتب. غير ذلك
لا تتعدَ كونها هواية وملئ لوقت فراغ.
السياق الثاني للقراءة هو التحوّل لمفكّر. هناك صورة سخيفة مرسّخة في
أدمغة البعض أن المفكر هو من يدخن ويضع البيرية الروسية، ويتحذلق بالكلام
وما إلى هنالك. في الحقيقة المفكرون أو الانتلجنسيا أو الـ Intellectuals
هم من يقومون بخلق مسار جديد في التفكير، أي ابتداع إما نظرية معنية أو
إطار فكري جديد ترى من خلاله. المفكر باختصار هو من يؤسس شارعاً جديداً
كي يعبر منه من يقرأ له. فالقراءة ضرورية لمن يريد هذا التوجه والمساهمة
في فتح مفاهيم أخرى، لأنها تُريك مخططات مفكرين آخرين وكيف قاموا بفتح
طرقهم الخاصة!
وفقاً للفلسفة الأرسطية فإن هدف المعرفة أو التفلسف هو أن «نتعلّم أكثر
لنحيا أفضل» هذا التلخيص المنسوب لأرسطو يختصر الكثير من العناء لإيضاح
هذه الفكرة. فكرة الإنسان الذي يقرأ كثيراً ويتعلم كثيراً ويحاول التغيير
كثيراً فيتعثر كثيراً وبعدها يبدأ بالنواح واللطم.. الخ. صديقي العزيز
هدف (القراءة، التعلم، التفلسف) وكل مرادفات هذه الأمور هو ليس فقط أن
تتعلم أكثر، بل لكي تحيا أفضل. إن لم تستطع تحقيق الشطر الثاني من
المعادلة فستحرق نفسك!
ما فائدة إن تعلمت أكثر ولم تحيا أفضل؟ لا شيء. ستموت متفسخاً من داخلك
بسبب تخمة ما تحتويه من توجهات وآراء وأفكار. لذلك هدئ من روعك قليلاً
أيها العزيز، فالهدف كله لكي تحيا أفضل.
إن لم يجعلك ما تقرأه إنساناً أفضل لا تقرأ. إن لم يكسر حدود أطرك
الفكرية المسبقة ويخرجك من فقاعاتك البلهاء فلا تقرأ. إن لم يوسع أفقك ما
تقرأ ويجعلك تتقبل الناس أكثر فلا تقرأ. إن لم يزعجك ما تقرأ لأنه يحرك
ما ورثته من تقاليد فلا تقرأ. باختصار شديد، إن لم تحسّنك القراءة وتجعل
منك إنساناً أكثر تمدناً وأكثر تقبلاً وأوسع أفقاً وأهدئ مجلساً فلا
تقرأ!
أخيراً لدي نقطة نقد لنصيحة جوفاء لطالما مُورست وهي نصيحة إن كنت مبتدئ
بالقراءة فاقرأ الكتب البسيطة والروايات السلسة وبعدها اصعد تدريجياً.
أليس كذلك؟ ما رأيك إن قلت أنّ هذه الفكرة خاطئة؟ نعم. لأن مَن بدأ
بقراءة الكتب البسيطة قبل 5 سنوات من الآن لا يزال إلى الآن يقرأها! ما
رأيكم؟ هل أصبت بتوقعي؟
الصحيح أن يقال اقرأ الكتب التي تميل إليها. إن بدأت بما هو سهل ستتعلق
به وستعتاد عليه وتصبح أي محاولة لقراءة شيء مختلف تبدو غريبة وتجعلك تمل
سريعاً وتصطدم بنمط جديد لم تعتد عليه من الكتابة، وهذا ما يصبرك عليه
فقط عندما تكون تقرأ في مجال تحبه أو أنت تريده. لذلك لن أقول لك اقرأ
البسيط والسهل. سأقول لك اقرأ ما تميل إليه يا عزيزي، حدد ما هو النمط
الذي ترى نفسك منسجماً إليه ولو ظاهرياً ويثير اهتمامك واقرأه. سواءً كان
سهلاً صعباً أو متوسطاً. أساساً السهولة والصعوبة مفاهيم نسبية فالأمر
يعتمد عليك. فالسهل على أستاذ جامعي قد يكون صعباً على طالب ثانوية لذلك
الأمر يحتمل المط والأخذ والجذب كثيراً.
هذا كل شيء لدي عن القراءة ولا أريد الإطالة أكثر لأني كما قلت لا أحب
ممارسة سلطة معرفية على أحد. بل أردت إضافة قليل من التشغيبات ليس إلا.
والآن دعنا نضيف تشغيبات أخرى إلى الكتابة أيضاً.
7- الكتابة عملٌ شاق
صعب أن نكتب عن الكتابة، لأنه كما يُقال في اللغة العامية «شهادتي بها
مجروحة» فلا تحاول أن تسأل كاتباً عن الكتابة. رغم تحفظي على لفظة كاتب
التي لا أحبها والتي هربت منها في مراحل ومحطات مختلفة، إلا أني أجد نفسي
وأجد أن الناس قد تعرّفوا إليّ بها وأصبحت مُلصقة بي، فلا بأس. وكما يقال
بالعامية أيضاً «صيت غنى ولا صيت فقر».
لم يعد لدي ما أكتب، كل ما أفعله أني أجلس أمام آلتي الطابعة وأبدأ
بالنزيف – هيمنغواي
تختلف أنواع الكتابة حسب شخصية مَن يقف وراءها. هناك من يكتبون الخواطر
الرديئة. هناك من يكتبون المقالات الممولة ذات الطابع الواضح للأعمى حتى.
هناك من يكتبون لأجل المشاغبة. هناك من يكتبون وفق نمط «ما يطلبه
الجمهور» أي يعرفون أكثر ما هو مطلوب ويقتلونه كتابةً بعدها. هناك من
يكتبون بشكل نخبوي جداً لدرجة ألا أحد يقرأ لهم، هناك من يكتبون بضحالة
وسطحية شديدة لدرجة أن القاصي والداني يقرأهم رغم كل الرداءة. وهلم جرا
على أنواع الكتابة وتشعبها.
أيها الصحيح؟ أيها الأفضل؟ لا أحد.
لفترة كبيرة كنت أعتقد أنه من الخاطئ أن يكتب الإنسان لأجل لفت الانتباه،
وأن أولئك الذين يكتبون خواطر رديئة تعبر عن مشاعرهم التي لا يعطيها أحد
قيمة غيرهم مخطئون، وأن أولئك الذين يكتبون بتعقيد شديد مخاطبين
إنتلجنسيا المجتمع هم على غير صواب. لكن فيما بعد تبين العكس، الكتابة فن
استقطابي . بمعنى أنها تجمعك بمَن هم على هواك ونفس تفكيرك. أي إن كتبت
بعنصرية وتشدد ستجدد حولك المتشددين المتزمتين.
إن كتبت بميوعة وسطحية ستجدهم حولك أيضاً. إن كتبت ما يطلبه الجمهور فلن
يكون حولك سوى جمهور يبحث عن مبتغاه ليس أكثر، بمجرد أن يأخذه ينصرف.
لذلك حاول أن تكتب ما تُريد أن تجتمع به مع الناس. حسناً، صحيح أن للكلمة
قوة وأنها تغير وما إلى هنالك، لكنها تغيير ناعم تراكمي يا عزيزي،
التغيرات الكبرى لا يمكنها أن تأتي بالكتابة، لا سيما أنها فنّ هادئ
محترم، وغالبية التغييرات الحقيقية الجارفة لأفكار بالية لا تحتاج إلى
هدوء واحترام بقدر ما تحتاج لصخب وهمجية تقوم بقبعها من جذورها حتى نهاية
أطرافها على رأي شامبو بانتين.
لا أحد مخطئ عندما يكتب، الأمر باختصار أنك تجتمع بمن هم على نفس هواك.
المائعون يجتمعون مع المائعون، والنخبة تجتمع مع النخبة. هكذا الأمر
باختصار.
قبل أن أترك هذه الفقرة هناك شيء مهم لا بد من قوله هنا، لا يجب على
الكاتب أن يكون محبوباً لأنه عندما يُحب يصيب القارئ غشاوة تمنعه من
التفكير. بمعنى أن علاقة الكاتب / قارئ يجب أن تكون علاقة معلومات وإضافة
مفاهيم لا علاقة أضحكني وأحببته وأعجبني. استغرب أحياناً عندما يقول لك
أحدهم لم أحب ما كتبته! يا صديقي العزيز من قال أساساً أننا نكتب لكي
تحب! أحياناً كثيرة نحن أنفسنا لا نحب ما نكتب!
درجة الطفولية لدى البعض مثيرة للشفقة. إذ أنه يريد أن يقرأ ما هو محبوب
ومضحك وملوّن ومحبب للحواس. يا صديقي هذا يحدث مع الأطفال عندما يُريدون
ترغيبهم بشرب الدواء فيطعمونهم حلوى ويضحكوا عليهم. هذا لا يحدث مع
الكبار الواعين!
الأمر بما فيه أنك يجب أن تكون مخلصاً ككاتب وتضيف قيمة جديدة للقارئ حتى
لو كان على حساب أن تخسر محبته أو على الأقل صورتك المسبقة في ذهنه.
صدقني بإمكاننا أن نكتب كل يوم مقال يطبّل ويزمّر لكل الأشياء الجميلة
التي يحبها القراء والتي يعرفها الجميع. لماذا لا نفعل؟ لماذا نجازف بكل
هذا؟
شيء يسمى الإخلاص. وهو للأسف بات الكثير من القراء والكتاب لا يفهمونه حتى.
8- القاعدة الأهم في فنون القتال: لا تستخدم فنون القتال
بمجرّد أن رأيت اللاعب الذي أمامك يقفز كالبهلوان والبابون وينفذ كل حركة
جديدة يتعلمها على جميع أخوته وأصدقائه ويطبل ويزمر كثيراً، ويمشي
كالطاووس في الشارع أعلم أنه مبتدئ، بل مبتدئ جداً، ولم يتعلم فنون
القتال بل تعلم جزءًا يسيرًا جداً من مهارة القتال بدون كلمة فن المهمة
قبلها.
كنت أنظر بشيء من السطحية إلى المدارس الشرق آسيوية في تعليم فنون
القتال. كيف أنهم يقومون بحركات بلهاء بأيديهم بالهواء ويتأملون كثيراً
ويقضون ثلاث أرباع المعركة في مقدمة للمعركة! أين القتال بحق السماء! دون
أن أدري أن هذا هو الجزء الفني في القتال. ولعل أهم ما لن تتعلمه في هذه
الفنون لأنك ستكتشفه بنفسك هو أن تقاتل لا أحد، أو أن تقاتل نفسك. أن
تنتصر على رغبتك أو بمعنى أدق «غريزتك البدائية الحيوانية» في أن تقاتل!
ولو خرجنا قليلاً عن الموضوع لكن لا بد من إضافة صغيرة ها هنا. جميعنا
نرى الحروب على الشاشات وأتمنى ألا أحد يعيشها واقعاً، لكن القتل يشكل
عنصراً أساسياً فيها أليس كذلك؟ الموت هو الشيء الأساس في الحرب. القتل
هو ما يعطي للحرب وجهها. لو طرحنا سؤالاً فلسفياً أخلاقياً هو التالي:
لماذا القتل شيء مُشين؟ لماذا القتل شيء سلبي غير أخلاقي؟ للوهلة الأولى
قد تستنكر التساؤل لكن لو غصت في العمق قليلاً وعدت للجذور لتساءلت أكثر،
فعلاً، لماذا القتل شيء سيء؟ أو بشكل أدق كيف بدأت أخلاقية القتل
وتجريمه، ما الأساس الذي اتبع حتى تم فرز القتل كشيء غير إيجابي بل سلبي
مُعدم أخلاقياً؟
وإن أردت تبريراً لذلك؟ حسناً سأعطيك واحداً. عندما تقتل أحداً فأنت تريح
الكوكب من كائن يعتبر فائضاً عليه. هناك 7 مليارات إنسان، غالبيتهم بلا
فائدة حقيقة – نسبة العلماء والمفكرين ومكتشفي اللقاحات لا تشكّل 1% من
الناس- بل يقومون بتعكير مزاج الكرة وغلافها. لا تعتقد أنه بموتك سينتهي
العالم يا عزيزي. على العكس قد يرتاح وليس يحزن!
هذا قد يكون تبريراً لإيجابية القتل مثلاً.
أحد الإجابات على هذا التساؤل – سلبية القتل – تسمى النظرية الفنية أو
النظرية الجمالية . وهو أن القتل عملية بشعة. عملية يكتنفها الكثير من
الدماء، الكثير من الألم، الكثير من الأشلاء، الكثير من الصراخ، الكثير
من العويل واللطم والنواح. هذه كلها قيم ليست غير جمالية فحسب، بل قيم
موغلة في البشاعة والرائحة النتنة. لذلك أخذ القتل بالخاصة والحرب
بالعامة بعداً لا أخلاقياً. لأنه لا قيمة جمالية فنية فيه. مَن يدري ربما
لو كان بالإمكان قتل أحدهم بطريقة لطيفة قد يكون شيئاً إيجابياً. لا أعرف
كيف مثلاً قتل بوردة أو بقبلة أو شيء من هذا النمط.
عودةً إلى فنون قتالنا. القتال فن لأنه لا يتوجب البشاعة أو انعدام
الاخلاق، ولهذا تجد لكل فن قتالي غالباً أشبه بمانيفيستو أخلاقي وجب عليك
اتباعه وبنود عامة من نمط لا يجب أن تجهز على أحد وهو مستلقي على الأرض،
لا تضرب على المناطق الحساسة، وعدة أمور أخرى. ففنون القتال بدرجة كبيرة
لا تحتاج وحشاً هائجاً مليء بالتستوستيرون بقدر ما تحتاج إنساناً فناناً
يعرف ما يقوم به.
هناك سؤال يطرح كثيرًا وجب إجابته، وهو في حال تواجه اثنان أحدهم عامي
هائج يركض كالثور كي يضربك ويقاتلك، وبين أحد ما يعلم فنون القتال من
سيفوز؟ الرياضي صاحب الحركات، أم ذلك الذي يمتلك الزخم وكرش كبير وخبرة
في أزقة الشارع؟ الجواب بدون نقاش إن أهملنا عوامل كفرق الطول والوزن وإن
افترضنا تساويها أو تقاربها هو فنان القتال طبعاً.
التطوّر بالأحزمة يأتي من خلال عاملين مهمين. الأول هو سرعة أداء الحركة،
الثاني وهو الأهم عامل الثبات! عامل إغلاق الحركة! الجزء السلبي منها.
فأي أحد لو قمت بتدريبه بشكل جيد سيستطيع تأدية شقلبات معينة، لكن ليس أي
أحد يستطيع التنفيذ بثبات! ليس أي أحد يستطيع أن ينهي الحركة! أن يضرب
بسيفه ومن بعدها يقوم بالجزء الأهم وهو إرجاع السيف إلى غمده!
لأجل هذا يفوز المقاتل دائماً في قتال الشوارع لو كان عادلاً ولم يهجم
عليه ستين وغداً بدلاً من واحد، لأن عامل السرعة سيكون معه، وعامل القوّة
طبعاً سيكون معه. وأهم من كل هذا عامل معرفة الأماكن الحساسة للضرب، وهو
ما يفتقر إليه ذلك صاحب الكرش الزخم، لأنه غالباً يكون متجهاً بسرعة
فاتحاً ذراعيه كالأبله دون أن يتخذ أية وضعيات دفاعية. ففي حال مثل هذه
أكثر منطقة مهمة تكون مكشوفة وهي الخاصرة، وقد تكون منطقة زاوية الفك
والوجه أيضاً. وما يُطلب منك حينها مجرد ضربة واحدة مركزة تنهي الموضوع.
تعتبر منطقة زاوية الفك السفلي من أكثر المناطق المعصّبة في الجسم
البشري، لذلك أي ضربة ولو خفيفة قد تسبب في اخلال توازن واغماء الطرف
المقابل، نظراً لحساسية هذه المنطقة وكثرة أعصابها.
هناك سوء فهم لقتال الشوارع تسببت به السينما، وهو أنه يجب أن يكون
طويلاً وأن يتبادل فيه الطرفين الضربات لمدة ربع ساعة، وهذا خاطئ بالقطع.
هذا الأمر صحيح فقط في الأفلام. القتال الحقيقي في أقصى حالاته لا يكون
أكثر من 4 – 5 ضربات. لأن هدفك لا أن يكون هناك كاميرات مونتاجية تقوم
بتصويرك وأنت تقاتل، بل هدفك هو النجاة أو على الأقل الهرب. لذلك لا تكون
حركاته كثيرة بل مركزة وحازمة.
أخيراً وليس آخراً، وهو الأهم في كل ما قلناه، أن فنون القتال تمنحك
ضبطاً رهيباً للنفس ونوعًا مُلفتًا من الهدوء. وفي الوقت نفسه تكسبك كماً
من الثقة والتقدير الذاتي، ثقة أن الذي أمامك إما ضعيف لن يصمد إذا ضربته
فتتركه رأفةً به، أو أن يكون منافساً حقيقياً شريفاً وهو ما لن تجده
قطعاً في عالم الشوارع، وإن وجدته فأعتقد أن هكذا نمط من الناس لن يقاتل
أحداً أساساً.
9- دع الحياة تأتيك بأعنف ما لديها
إن الاتجاه للتشدد في أمر ما، سيقود في النهاية للاتجاه للتشدد في الجانب
الآخر – ارسطو
هذا المبدأ مُطبق عملياً بشكل كبير مُلفت للنظر، مثلاً أكثر الناس عرضة
للإيمان أكثرهم إلحاداً! أكثر الناس عرضة للانحلال الأخلاقي، هو ذلك
المتزمت الذي كان يلتزم بكل تفصيلة صغيرة من التفاصيل، ثم فجأة أتته
حادثة ما، وهووووووب انحل بالكامل! أكثر مُسنن عرضة لأن يفلت و«يبوظ» هو
ذلك المشدود حتى آخره! أكثر الناس عرضة لأن يترك أهله وعائلته ويتخلى عن
حياة الجماعة تلك هو ذلك الذي تم خنقه بشدة في الوسط العائلي وضغط عليه
من كل الجوانب، فتكون ردة الفعل في الطرف الآخر! فالأمر هكذا يمشي، مَن
تقترب إليه ستبتعد عنه، ومن تبتعد عنه ستجد نفسك قد أصبحت بين أحضانه!
وأهم من هذا كله وما أريد أن أتكلم عنه هنا هو أن أكثر الناس عدميةً
وبؤساً وتعاسة، هم أكثرهم عرضةً لشن هجوم عنيف من القوة. فغالباً من يدير
ظهره معرضاً عن الحياة، تأتيه هي فيما بعد خانعة تحت قدميه!
حافظ على ما في داخلك، نقياً، تقياً، صلباً، ودع الحياة تأتيك بأعنف ما لديها.
هناك حدث لطيف دائماً يحصل معي أحب أن أشاركه معكم، وهو أن هاتفي بدون
رمز سري منذ وقت طويل. وكما تعلمون أصدقائنا كائنات فضولية يعتبرون
أملاكهم وأملاكنا شيء واحد فأحياناً يمسكون الهاتف ليفتحوه فيتفاجؤون أنه
لا رمز سري فيه. ويكون بعدها دائماً التساؤل التالي: لماذا لا تضع رمز
سري؟
لأجيب نفس الجواب الموحد المستفز: ليس لدي شيء لأخفيه يا صديقي.!
رغم نبرة الغرور التي قد تراها هنا لكني أحب هذه الصراحة جداً، أن يكون
جانبك المظلم هو جانبك الظاهر على العيان! أي أنه ليس لديك شيء ليخفى،
فإما أن تكون صريحاً بما تفعل من أمور سيئة – إن وجدت طبعاً – أو أن تكون
نظيفاً لدرجة أنك لا تخاف من شيء كيلا يراه أحد. وأنا هنا أحفزك على أن
تكون من أنصار التوجه الثاني!
هناك فرق يا أعزائي بين مصطلح خصوصية المستخدم، حيث أن لديك بضعة أمور
مهمة لا يجب أحد أن يراها من نمط كلمة سر أو مراسلات مهمة وما إلى هنالك،
وبين مصطلح أمور قذرة يمارسها المستخدم ويراها ولا يريد أحد أن يكشفه،
فيضعها ويدفنها تحت مسمى الخصوصية! هذه ليست خصوصية، هذا جانب بشع جداً
من شخصيتك تحاول إخفاءه حتى عن نفسك!
حافظ على نفسك نقياً من الداخل. لا يهم الخارج أبداً، تباً للخارج ولما
يراه الناس. لا لا، ليس كلاماً شاعرياً ساذجاً مبتذلاً. حتى سأقول لك كن
سيئاً إن أردت. لكن كن نقياً! كن واضحاً! هناك بعض السيئين الأشرار قد
تحترم وتبرر تصرفهم عندما تعرف دوافعهم، المزعج هم أولئك المتلبسين
بعباءة الأخلاق الزائفة التي تنتظر أقرب فرصة فقط كي تنخلع!
انعكاس الصفاء الداخلي سيساعدك كثيراً في تعاملك مع الحياة من حولك، داخل
الإنسان هو أشبه بمحرك طائرة يعمل بوقود، وأنت عليك أن تختار إما وقودًا
رديء الجودة غير منسجم وغير نقي وسيحطمك على المدى البعيد، أو أن تختار
وقودًا جيدًا لا يجعلك فقط تمشي للأمام، بل ستسمع صوت المحرك لطيفاً،
وسترى الآلة تمشي بهدوء واتزان، وسترى انسجام كامل بين جميع المكونات لأن
الداخل والأساس هو الوقود كان نظيفاً.
لا يهمني أي توجه تريد ولا أي طريق ستمشي به. حافظ على وقود جيد. حافظ
على داخلك نقياً وصلباً. نعم الحياة قاسية وغير عادلة وبنت ستين كـ***،
أنا معك بكل هذا، لكن يجب أن تكون صلباً، يجب أن تكون قاسياً خشناً
قليلاً. في مرحلة ما، ستجد نفسك في معارك صعبة وحيداً، ستجد نفسك أشبه
بالكابتن ليفاي وهو يقاتل العملاق الوحش كما في المقطع التالي:
هكذا يجب أن تكون. يجب أن تكون سريعاً. أن تكون حازماً. أن تأتي في الوقت
المناسب كما قلنا في النقطة رقم 4. يجب أن تأتي قبل أن يموتوا! يجب أن
تسجل هدفا قبل أن تنتهي المباراة يا صديقي!
لا يجب أن تيأس وأنت في أول الطريق. لا تيأس يا عزيزي لا تيأس. فلا ييأس
من روح الله إلا القوم الكافرون. وهنا نجد مقارنة جميلة لا بد من اللفت
إليها، وهو أنه تم تقرين اليأس مع الكفر! هل سألت نفسك لماذا؟ لماذا
اليأس قُبّح إلى هذه الدرجة؟
لأنه يقوم بفسخ روح الإنسان من الداخل، عندما ييأس الإنسان لا يموت ولا
يقتل نفسه على العكس لو فعل ذلك لكان أفضل. بل يقوم بالتحوّل إلى كتلة
سامة ونواة مشعة من اللا أخلاق في الوسط المحيط بكامله. الذي ييأس يحطم
عائلته، الذي ييأس يترك عمله، الذي ييأس لا يخطط لما سيأتي، الذي ييأس
ينسى واجباته، الذي ييأس يكره أصدقائه.
بالمناسبة، هناك فرق بسيط بين الشخصية الانطوائية والشخصية السايكوباثية
المعتلة الواجب معالجتها عند طبيب نفسي. الفرق أن الانطوائية ميول طبيعية
تتجسد بإنسان لا يرغب كثيراً في مقابلة أصدقائه ومن حوله ويفضل البقاء
وحيداً. أما السايكوباثي فهو إنسان «يكره» من حوله، يكره أصدقائه، يريد
إيذائهم ولا يشعر بوازع أخلاقي إن تعرضوا لشيء سيء.
فهذا إنسان مريض معتل، وليس توجه سليم، ولولا بعض الأفلام السينمائية
التي تصدر كل فترة وفترة لما رأيت البعض يتباهى بهذه الميول المضطربة.
لذلك لا تيأس يا عزيزي، صدقني أن الإنسان الذي لم يهزم من الداخل لا
يستطيع أي أحد أن يهزمه من الخارج. روح الإنسان شيء قوي جداً. سمها ما
شئت وكيفما أردت: روح، غبار نجمي، أنا عليا أنا صغرى. نون النسوة. أيًا
كان. المهم أنها شيء لا يهزم فيك.
وتذكّر دائماً أن قلب البطل شعلة من المستحيل أن تنطفئ! فحافظ على ما في
داخلك، ثم دع الحياة تأتيك بأعنف ما لديها!
10- «أطالبكم أن تضلوني وتجدوا أنفسكم» –فريدريك نيتشه
عندما تتعثر ويمسك أحدهم بيدك كي يساعدك على النهوض، لا بد بعدها من أن
يقوم بترك يدك. من غير المعقول أن يبقى ممسكاً بيدك عندما تستقيم، وعندما
تعود للمنزل، وعندما تذهب لأي مكان. في مرحلة ما يجب أن يترك يدك. أنا
هنا انتهت مهمتي. أنا الآن أقوم بتركها…
منذ بداية العنوان كتبت كلمة المقال الأخير لكي أصل إلى هذه الفكرة، وهي
ذات علاقة نوعاً ما بنيتشه كونه مارسها بشكل أو بآخر. نيتشه تقريباً هو
الكاتب الوحيد – دقق هنا على كلمة كاتب لأني أختار جزء الكتابة فقط من
شخصيته – الذي كان لا يرغب في أن يصبح له أتباع. لأجل هذا كان يكتب
بقسوة. كان يكتب وكأنه يطلق رصاصاً من قلمه. كان يكتب وكأنه يقول لك اقرأ
لي وابتعد عني فوراً واذهب.
كان يكتب ويقول فيما يكتب: «أطالبكم أن تضلوني وتجدوا أنفسكم.»
لا أحد وصف نيتشه بدقة كما فعل العبقري سيجموند فرويد عندما قال عنه: لا
يوجد إنسان استطاع أن يعرف نفسه معرفة ثاقبة كما استطاع نيتشه أن يفعل.
نيتشه عرفَ نفسه لكنه وعلى سبيل المفارقات لم يكن يمدح نفسه أبداً فيما
يكتب. إذ دائماً يكون الكاتب متحكماً بجزء ما بالصورة المرسومة في ذهن
قارئه. بمعنى أني أنا هنا أستطيع أن أعرف ماهية الصورة التي ترسمها لي في
ذهنك، وبعض الكتاب الأوغاد تجدهم يستغلون هذا لأغراض تسويقية بحتة.
نيتشه فعل العكس، إذ تراه دائماً يصرّح بالأفكار الصادمة وغير المرغوبة
والشاذة عن المألوف وينقد هنا وهناك ويثرثر في كل مكان. نيتشه لا يجمّل
نفسه أبداً. رغم أنه كاتب ويستطيع فعل ذلك، وأسلوب تدوين هكذا تكلم
زرادشت وحده كفيل بجعل الجميع يصدقون أن لهذا الرجل حساً فلسفياً غير
مألوف وعصي الفهم حتى. لكن يصر على أن يكون صريحاً، وألا يجمّل نفسه
أبداً.
كان نيتشه يقول أنّ الكاتب السيء هو الذي لا يجعل من نفسه درجة كي يعبر
القارئ إلى الأعلى. بمعنى أن الكاتب يجب أن يساعد القارئ في مرحلة ما كي
يتخلى عنه ويتجه لما هو أعلى منه. الكاتب مجرد درجة يجب عليك أن تعبرها.
فإن لم ترَ فيمن كنت تقرأ له قبل سنتين من الآن وغداً فأنت لم تتطور! وإن
لم تبصق على كتابات من قرأت له قبل 5 سنوات من الآن فأنت لم تتطور! هذا
كاتب سيء دفعك للتشبث به والالتصاق. هذا لم يكن درجة لك للأعلى قط!
ما أريد أن أقوله كفقرة أخيرة، أنك يجب أن تغادر يا عزيزي، يجب أن تترك
هذا العالم الكتابي الساذج. وهو ما لا يقوله لك أي كاتب آخر، لأننا نحن
الكتاب مجموعة من الأوغاد الذين نريد من القارئ أن يعلق بنا دائماً وأن
يقرأ لنا دائماً ويمجد بنا دائماً وألا يكف عن الانبهار في كل سطر يقرأه
وكل كلمة يسمعها. يا صديقي أنا كتبت كل هذا الكلمات لأصل معك إلى النقطة
الأخيرة. كتبت كل شيء كي أنفيه لك! أنا دخلت إلى هذا العالم فقط من أجلك،
كي أجعلك تغادره أنت! ألم تفهم هذا بعد! غادر! اذهب الآن!
عندما تُريد أن تهدم فكرة ما فأسوء ما تفعله أن تهاجمها من الخارج، أن
تضربها بمنجنيق من بعيد. هنا أنت لا تؤثر عليها أبداً، بل تساهم في
تقويتها. الصحيح أن تقوم بتبني تلك الفكرة. أن تستوعب تلك الفكرة. أن
تغوص فيها إلى العمق. ثم ماذا؟ ثم تقوم بحرقها من الداخل! تقوم بإثارة
الفسوخات هنا وهناك. ثم ماذا؟ ثم تجد أنها انحلت تدريجياً وسقطت مع تقادم
الزمن.
هل مازلت حقاً تقرأ هكذا نمط من الكتابات يا صديقي؟ هل حقاً تريد أحد أن
يعطيك لائحة مسبقة و«كاتلوج» عن الحياة قبل أن ترغب في خوضها؟ اذهب يا
صديقي. اذهب وخض الحياة بنفسك. اجعل قلبك ينكسر، ثم يشفى. ثم ينكسر مرة
أخرى. سافر وابتعد عن عائلتك. اشعر بالجوع قليلاً، امرض ولا تجد أحداً
يعطيك دواءً أو يتصل، ارسب في دراستك، تعثر في مسيرك ثم انهض. اذهب يا
صديقي اذهب. عش حياتك لا تقرأ عنها. لا تخنق نفسك في فقاعة من وهم
الكمال.
وهم الكمال يتجسد فيمن يريد أن يبدأ حياته بدون أن يخطأ لذلك يطلب هكذا
نوع من المقالات كي يقرأها، لأنه يريد كل شيء كاملاً، هو يعرف كل شيء
مسبقاً، يعرف كل كلمات السر، يعرف جميع المفاتيح أو يملكها أو قبض عليها.
لا يريد أن يتعثر. لا يا عزيزي لا. العكس هو ما يجب فعله. نصف الشجاعة
تكمن في شجاعة أن تخطأ! شجاعة أن تسقط في الطريق. شجاعة أن تكون أعمى!
شجاعة ألا تعرف شيئاً! أن تدخل إلى اللعبة بدون كاتلوج توضيحي! أن تمشي
أعمى. أن تكتشف القوانين وأنت تمشي لا قبل أن تبدأ باللعب.
بالنسبة لأصحاب التوجه العدمي حصراً، تذكّر أن عدم اللعب هو نوع من أنواع
اللعب الرديء! لماذا؟ لأنك موجود ضمن إطار اللعبة غصباً عنك، وعدم لعبك
يعني أنك تلعب مُجبراً لكن بشكل سيء!
يا صديقي كتبت هذا المقال كله كي أصل بك إلى هنا. كتبته كله كي أحررك. كي
أقول لك غادر واكتشف بنفسك، ولا تجعل أحد يمارس سلطة «حياتية» عليك. حرر
نفسك. هؤلاء الكتاب بما فيهم أنا مجموعة مِن الأوغاد يريدونك أن تتعلق
بهم كي تقرأ بشكل مُستمر وفي النهاية هم من يكسبون المديح وأنت تخسر! تجد
نفسك في فجوة بعيدة عنهم فتيأس وتقول من الصعب جداً أن أصل من الصعب جداً
أن أفعل!
مثلاً الذين قرأوا الجزء الأول وأحبوه وطبعوه وشربوا ماءه ما الذي فعلوه
بعدها؟ لا شيء. دعني أخمن. نُسي المقال كأنه لم يكن. لماذا؟ لأنك لم
تفهم! ليس الهدف أن تحفظ الكلام وتكرره وتعيده كمسجلة يا صديقي ليس هذا.
إن لم يقم هذا الكلام بتغير حياتك بأكملها فأنا لم أربح شيئاً من كل ما
كتبت وأنت لم تفعل! يغيرك ابتداءً من موعد نومك، لموعد أكلك، لموعد كل
شيء آخر!
توقف عن التكرار. توقف عن المدح. توقف عن التطبيل لفلان وعلان. توقف عن
قراءة هكذا نوع من المقالات. توقف عن كل شيء يا عزيزي توقف!
كتبت هذا المقال لهدف واحد وهو أن أجعلك تغادر لأجل مصلحتك صدقني. لا
أريدك أن تتعلق بما نكتب مثلما يفعل الكتاب الأوغاد ذلك ويسعدون به. اذهب
يا عزيزي اذهب. لا تضغط متابعة ولا ترسل رسالة امتنان ولا تفعل أي شيء
آخر. اذهب وحرر نفسك. أطالبكم أن تضلوني وتجدوا أنفسك. اضلني، اضلهم. اضل
الجميع يا عزيزي وجد نفسك. جد نفسك!
دائماً تُعطي خاتمة المقال وعد جميل أو تلخيص أو شيء من هذا القبيل، لكن
في هذا المقال لن أفعل. قلت لكم الأخير أليس كذلك؟ نعم. لأنه الأخير من
هذا النوع الذي أتمنى أن تكون قد وصلتك فكرته جيداً. لا تتعلق يا عزيزي،
التعلق جزء من الموت. التعلق يأكلك حياً.
سأقول لك هنا وداعاً، وأتمنى بصدق ألا أراك في هذا النمط من الكتابة
ثانيةً. سنستمر في الكتابة نعم. ستسمر أنت في القراءة نعم. لكن على عكس
ما كان يسود في مثل هكذا مقالات لن تقوم أنت بالانفعال لحظياً وبعدها
تتراجع وتنسى مع الزمن. سيكون هذا المقال ذو تأثير صادم في وقته، لكنك
ستفهمه أكثر كلما مر الوقت. وغالباً في تلك اللحظات ستشعر بما قلته لك
وتتذكرني حينها.
لأجل هذا تحديداً، ليس أنا فقط بل الجميع. أطالبكم أن تضلوهم وتجدوا
أنفسكم. وحاول أن تعيش حياتك لا فقط أن تقرأ عنها. عش حياتك يا عزيزي ولا
تكتفِ بالقراءة عنها.
اترك تعليقا: